التصحر الاستراتيجي للإسلام السياسي في الجزائر

مشاركة

في الجزائر تتداخل السياسة بالتاريخ وتتدافع وتتصارع التيارات حول قضايا خلافية أحيانا عميقة تمتد إلى أبعاد زمنية سحيقة في الماضي، وأحيانا عقيمة ناتجة عن أزمة آنية في الرؤية، والسبب في كل هذا غياب العقل الاستراتيجي في التدبير السياسي الذي خلفته حالة التصحر التي يعيشها “العقل الوطني” مذ اختلط لديه مفهوم الاستقلال بالحرية والحقيقة بالوطنية واستحال الفرد إلى عبد لا مواطن مؤثر في عملية التصور والبناء الوطني، ومن تلكم التيارات كانت الحركة الإسلامية ذات المد الشعبي الجارف والظل الورف في المشهد السياسي، غير أنها عجزت عن التأثير حتى لا نقول التغيير في واقع منظومة الإنتاج السياسي الذي تستفرد بها سلطة وتفرز من خلاله المعارضة التي تبغي هي ! 

فما الذي يعجز هاته الحركة على أن تلعب دورها في تحرير السياسة بالبلد؟ وما هي جملة المفاهيم التي تحملها بإزاء الاشكال التاريخي العميق للسياسة بالجزائر؟

من دون إيغال داخل هيكل خيال الحركة الإسلامية السياسي وصول إلى بنيتها الصلبة القائمة على رفض الواقع التاريخي بكليانيته بوصفه خطيئة بشرية مستمرة، وأن معركة الفصل لها موعد موسوم في الغيب، ومهديها المنتظر، وكل شيء حاليا يجب أن يُضمر داخل نطاق “التقية” ومسايرة قوى التغلُّب، فما ينبغي الإشارة إليه هو أن مثل هكذا إضمار في الخيال للتاريخ وخلط عالم الغيب بالشهادة، واستحضار تجربة التراث كنموذج لمعاودة انتاج التاريخ، لم يسهم أكثر من افراز أزمة بنيوية ومفاهيمية تعزل الحركة عن حقيقة الواقع وواقع الحقيقة لتمتد بأزمتها تلك إلى الواقع الوطني حيث تتدافع اطراف من أجل مطالب أخرى تمس المجتمع في واقع يومه.

هذا الاشكال في التشكل المفاهيمي والعضوي لحركات الإسلام السياسي، ظهر في الجزائر بأزمته الطاحنة في خلاف بين من سموا في العشرية السوداء بالمغالبين للحكم (تيار الجبهة الإسلامية للإنقاذ) والمشاركين في الحكم (تيار حمس الاخواني)، وإذا كان المغالبون قد نهجوا سبل العنف في الخطاب ثم بعدها في العمل السياسي، لتغيير الحكم في الجزائر، فلم يكن هذا بدافع تحرير السياسة بل لتغييرها، إذ مشروعهم كان قائما على ذات نمط تفكير الحكم أي امتلاك القوة والسيطرة بها على المجتمع بقناعة أن سيطرتهم تلك “شرعية”، مع السعي فقط للحلول محل الحكم ومن ثم السير على غير مشروعه لكن بذات أسلوبه، فجهازهم لإنتاج المفاهيم كان أفقر من أيحدث التغيير وفق السقوف المأمولة، بل كانوا يرفضون كل تحالف أو تقارب مع التيارات الأخرى لإحداث التغيير المنشود وذلك تحت سكرة شعبيتهم الكبيرة في الشارع، فأسقطوا السياسة كآلية عمل تغييري سلمي من حسابهم، ونهجوا الثورية “الشارعية” في إقصاء خطير لإرادة الرأيين العموميين الداخلي والخارجي والنهاية كانت حتمية بانسحاقهم الكبير في طاحونة المأساة الوطنية.

من جانبه لم يكن تيار المشاركة في الحكم أهدى من المغالبين سبيلا في تصوره للعمل السياسي “الوطني” المفضي إلى إحداث التغيير، فهو بحكم ارتباطه العضوي والفكري لحركة الاخوان ذات المنبت المصري، آثر دوما ارجاء مسألة الوصول إلى الحكم (وفق الحتمية الغيبية للإسلاميين ويقين الانتظار) إلى أن يرشد (الارشاد) المجتمع ويصلح (الإصلاح) وقتها نفسه وجهاز حكمه بنفسه، وإلى أن تبلغ الأمور هاته المحطة ينبغي الاستسلام وتسليم لقوى التغلب (الحكم) والاحتماء به في مواجهة التيارات السياسية الحداثية الاستئصالية لقيم الدين والاصالة في المجتمع الجزائري، ليتضح بأن هذا التيار بدوره ضحى بالعمل السياسي الوطني “الجاد” من أجل قناعته الذاتية المتخفية في خطاب المشاركة.

لكن مشكل الاخوانية كتعبير عن مطلب سياسي للإسلاميين، هي أنها تقع في أزمة نشؤ ذاتي ابتدائية، إذ أشار أحد نشطائها السابقين في الكويت المفكر السياسي عبد الله النفيسي أنها “تأسست في الاسماعلية في مصر، وهي منطقة كانت ابان الاستعمار الإنجليزي محل تواجد المعمرين والعساكر الانجليز، فاعثوا فيها فسادا أخلاقيا، ما جعل حسن البنا يبادر إلى تأسيس جماعة من الشبان “لحماية الاخلاق” فكل المبتغى والمقصود من ردة الفعل تلك أن تُحمى الاخلاق الإسلامية والشرقية من عبث وعربدة الغربيين، هذا الهدف صار فكرة متسعة في المكان من القطري إلى الأممي مستمرة في الزمان لكن غير متطورة ايقاعا وحجما بالشكل اللازم على مستوى الرؤية للتاريخ، ولا أدل على ذلك من نكسة الحكم بعد ثورة 25 يناير حين غابت بوصلة التغيير الحقيقي فخلط الاخوان بين الصالح والطالح في الحكم وانتهوا إلى مصارعهم السياسية والبيولوجية حتى.

الغياب الاستراتيجي السياسي الوطني في مشروع الاخوانية هو قديم في الجزائر، إذ يذكر محمد بوضياف أنه لما نضجت فكرة الثورة وبدأت الاستشارة حولها لدى مختلف التيارات السياسية والفكرية، تم ايفاد شخصيات إلى مصر لملاقاة البشير الابراهيمي ومبارك الميلي بغرض عرض فكرة الثورة كخيار حتمي ووحيد لتحرير البلاد، فرضها الشيخان بحجة “أن الشعب ليس واعيا بما يكفي لمثل هذا المشروع ونحن بصدد “تربيته” حاليا إلى أن ينضج وساعتها يحقق التغيير والتحرير” قبل أن تلتحق جمعية العلماء بالثورة بعد اقل من عامين من اندلاعها وتحديدا في أفريل 1956 حسب العقيد عمار بن عودة.

هو إذن رفض للمبادرات التحررية والتغييرية التي تتأتى من التيارات الفكرية والسياسية الأخرى، إنما يعكس الاسترابة والخوف الذي ينتاب الإسلاميين المشاركين (الداعمين) للحكم على مستقبل حضورهم في المشهد السياسي لذا يكتفون بالغنيمة الأيديولوجية التي يمنحها لهم الحكم عبر المحاصصة الانتخابية، على المستوى الجماعي والغنيمة المادية الفردية التي تستأثر بها نخبها وقيادتها من حضورها في مؤسسات الدولة النيابية.

ومع استمرار هذا الحالة داخل محتبسها ومدارها، صار هذا التيار يفتقر لدواعي وجوده في المعترك السياسي الوطني، ولا أدل على ذلك من الانحسار المهول لوعائه الانتخابي، وعجز منظومته الفكرية والثقافية عن مواجهة مطالب السوق السياسية والثقافية الجديدة والمتجددة في المجتمع.

صحيح أن الرفض الأيديولوجي من هذا التيار لغيره، لم يعد كما كان في السابق علنيا وصداميا، لكن غاية ما تم فعله هو أنه ألحق بخزانة المُضمرات مع بقاء قناعة الرفض مختومة عليه بالأحمر، فعلى سبيل المثال المسألة الثقافية اللغوية في إطار المطلب الوطني الجديد، لا يتعامل معها هؤلاء الإسلاميون بكونها طارئ من طوارئ العصر التي أفرزتها عملية تطور انتاج المعرفة وأن هكذا تطور يطرح أو ينتج مطالبا في المجتمعات، ينبغي الانخراط فيها معرفيا وسياسيا، فكلما حدثت احدهم عن المطالب الثقافية والسياسية الجديدة يحيلك إلى السؤال الغريب أين كان هؤلاء منذ 15 قرنا؟ والسبب هنا واضح أن التراث لا يزال حيا في خيالهم وقناعاتهم بوصفه حقيقة الأمس واليوم، وأن الحقيقة السياسية لديهم ليست انتاجا تاريخيا بل يقينا يطرأ على التاريخ.

الخلاصة هي أن الفشل الثوري في مجتمعاتنا ليس أمرا ذاتيا فيها، بل هو موضوعي متصل بفشل النخب السياسية في تجاوز ذاتها عبر الارتجاع المقيت لأصول الانواجاد الأول دون مراجعة ذلك مع مقتضيات العصر، والاسلاميون خابوا وخيبوا في هذا الإطار، في أكثر من تجربة، لعل أسبقها كانت تجربة الجزائر، كاشفين عن فقرهم الاستراتيجي في العمل الوطني ما حال دون بلوغ كل محاولات التحرير والتغيير السياسي والوطني محطتها النهائية.